الخالدون الثلاثة


الخالدون الثلاثة

الخالدون الثلاثة



اخترت هذا العنوان نقلا من كتاب الخالدون المئة لكاتبه "مايكل هارت" الذي قام بترتيب 100 شخصية مؤثرة عبر التاريخ الذين لا يمكن نسيانهم مدى التاريخ. وقمتبالاقتصار على الثلاثة الأوائل حسب المؤلف نفسه وهي كالتالي..

1. النبي محمد .. صلى الله عليه وسلم هو رسول العرب والعالمين جاء بالرسالة السماوية الاسلام ليخرج بها العرب المسلمين من ظلمات الجهل والوثنية الى نور التوحيد. وقام بتأسيس الدولة الاسلامية التي حكمت العالم لأكثر من 1400 سنة في وقت لا يساوي في حساب الزمن شيئا وبذلك استحق الرتبة الأولى

2. اسحاق نيوتن .. عالم فيزيائي ورياضياتي ومؤسس علم قوانين الحركة

3. السيد المسيح .. هو المسيح عليه السلام ورسول الله يؤمن به المسلمون والشخصية المحورية لدى المسيحيين 


ونرجو تعليقكم

عمر بن عبد العزيز

عمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز

في هذا العرض سنعيش مع شخصية عظيمة تبرز بجلاء مدى قوة المسلم عند تمسكه بالعقيدة وصنعه لمعجزات يسمع بها الشرق والغرب بلسان الدكتور علي بن عبد الخالق القرني

أمتكم أمة مجيدة عظيمة كريمة، اختارها الله؛ لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد، إنها أمة تمرض لكنها لا تموت، وقد تَغْفُو أحياناً لكنها لا تنام، وتُغْلَب لكنها لا تُسْحَق، أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر، ومشاعل للحضارة الحقَّة.

فمع عَلَم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، عَلَم يجب على الأمة أن تجعله وأمثاله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، ليكون حديث شيوخها في المنتديات، وقصصاً لأطفالها الذين لطالما أُشغلوا بالقصص الهابط والرسوم المتحركات، وحديثاً لبعض شبابها الذين لطالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات.

إنه من جعل كبيرَ المسلمين له أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقّر أباه، وأكرم أخاه، وعطف على ولده.
إنه القِيَم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المُثل رجالاً، والأخلاق واقعاً ملموساً!
إنه من العادلين إن ذكر العدل، إنه الخائف من الله إن ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بين يديه فتولى الخلافة فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي.

أظنكم قد عرفتم من هو؟
إنه عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وما أدراكم ما عمر؟! رجل لا كالرجال، وسيرة لا كالسير، وعذراً لن نَفِيَه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض مواقفه؛ لنتفكر وننظر ونعتبر، والتاريخ نقرأ.

اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] فحيهلا بكم -عباد الله- إلى بحر عمر لنبحر، ومن لآلئه لنَقْبُسَ ونذكر، ومن درره ننهل فنَرْوِي ونروى، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين. 
تولى الخلافة فكان مجدداً بحق -رضي الله عنه ورحمه- كانت خلافته ثلاثين شهراً لكنها خير من ثلاثين قرناً، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين فبارك الله في سنتين ونيف.

بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر فتعثر في طريقه إلى المنبر، تعثر من ثقل المسئولية، وتعثر من خوف رب البرية.

وقف يتحدث للناس قائلا: لقد بُوْيِعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتى، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك ورضينا بك.
فبكى وقال: الله المستعان.
ثم أوصاهم من على المنبر قائلاً: أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ونزل عن المنبر.

وبعد ذلك تُعرض له الدواب والخيل ليركبها؛ لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه فأعرض عنها قائلاً: ما أنا إلا رجل من المسلمين أَغْدو كما يغدون وأَرُوْحُ كما يروحون.

عاد لبيته معلناً أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة، ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزيناً يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة -بدأ بالأقربين- استدعى فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء.

بنتُ الخليفة والخليفة جدها أختُ الخلائف والخليفة زوجها
قال لها: إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟ رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبداً بعد اليوم.
قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى.

خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار، فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء.

فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟!
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا قيم السماوات والأرضين.
ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تُملأ جوراً، هيه يا عمر!

قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر
أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر!
بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن.

هو البحر من أي النواحي أَتَيْتَه فلُجَته المعروفُ والجودُ ساحله
ولو لم يَكُ في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
رزقه الله الخَشْيَة، ومن رُزِقَ الخشية فقد رُزِق خيراً كثيراً، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه، فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وكان أخوف الناس لله وهو يرجو الأمان من الله بإذنه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] .

ففي الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنَيْن: إن أمِنَني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة} .

دخل عليه أحد العباد: وهو كعب القرظي؛ فجعل ينظر في وجهه فإذا به: وَجْهٌ شاحب، وبدنٌ ناحل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر! ما دهاك؟ ما أصابك؟ والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللَّيِّن وتفترش الوثير، لَيِّنُ العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك -يا عمر - في غير هذا المكان ما عرفتك.

فينهد عمر باكياً ويقول: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد عجباً، وأعظم إنكاراً.
فبكى كعب، وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء.
جعل الهم هماً واحداً، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هَمُ الآخرة وكفى.

عرف عمر نفسه ومهمته وغايته وهدفه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فكَسَدَت عنده بضاعة المنافقين والشعراء، وقامت سوق المساكين والفقراء.

يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد منه سماعاً لما يقول، ولم يعطِه شيئاً فخرج، وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.

وجدت طُرُقَ الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راضيا 
أدنى الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني.
فكتب له سالم مولى أبي حذيفة: صُمْ هذا اليوم حتى تلقى الله فتفطر عنده.
وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصميْن؟ فكيف بثلاثة؟ كيف بك وخصمك أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- كلهم؟!!
جمع سبعة من الصالحين، وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -يا ليتنا نشترط هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوها وبلغوها، فَرُب مُبَلَّغٍ أوعى-:
أولها: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحداً.

وثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.

وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبداً.

فكانوا يجتمعون بعد العشاء فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة، كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله كتاباً شديداً يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميسون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون.
فلما قرأ ذلك انهد باكياً، قائلاً: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون.

حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يُفنِ قليلاً ولا كثيراً، همُّه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حج مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق من سبق اليوم جواده وبعيره، إن السابق من غُفِر له هذا اليوم.

كان شديد المراقبة والخوف من الله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بك يا عمر؟ قال: تذكرت قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فخفت خوفاً أورثني ما تَرَين.
فما حالنا مع القرآن؟

عمي عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأبكاه
مقياسه في الناس التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .

يقول: والله ما رأيت متقياً إلا وددت أني في جلده.
استدعى مزاحماً يوم أن تولى الخلافة فقال: يا مزاحم! لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله فأحببتك والله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا بن عبد العزيز.

كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال رجل منه ذات يوم، فقيل له: رد على هذا السفيه، فقال: إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ، إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ.

والصمت عن جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لِصَْوِن العِرْضِ إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتة والكلب يُخزى لعمر الله نبَّاح
كان-رضي الله عنه- لا يرضى مظلمة.

دخل بعضهم يبايعه فقبض يده، فقال: لِمَ أيها الأمير؟
قال: اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟! ما غضبت لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبداً بعد اليوم.

قطع أُعْطيَات بني أمية وصلاتهم؛ فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك فقال لابنه: قل لهم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] .

أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا أَلْجمنا أنفسنا بلجام: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] ؟
وَلَّى العُبَاد والزُّهاد واختارهم فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام.

فيا لله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن؟! لما تُوفِي عمر عَدَتْ الذئاب على الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل، فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة وبالعدل قامت الدنيا.

كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعاً تقياً، كان يقسم تفاحاً أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه؛ فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحاً، وعاد إلى البيت وليس معه تفاحة واحدة، فقال لـ فاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ.

فيا لله! وربِّ عمر إن مشهداً كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع.

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .

كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
كان شديد الخوف من الله جل وعلا، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.

كان يذكر الله في فراشه -كما تقول زوجه- ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل، حتى أقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم.
ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بُعْدَ المشرقين، والله ما رأينا سروراً مذ تولى الخلافة عمر.
تقول فاطمة زوجه: أمسى ذات ليلة، وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فَصَلَّى ركعتين، ثم جلس واضعاً رأسه على يديْه تسيل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه وانصدعت كَبِدُه، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح، ثم أصبح صائماً، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير ما كان منك الليلة أَأَمر ألمَّ بك أم ماذا دهاك؟ فأجابها -وقد نصب خوف الله أمام عينيْه- قائلاً: إني نظرت في نفسي، فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت ألا يثبت لي عند الله عذر، فخفت خوفاً دمعت له عيني، وَوَجَلَ له قلبي، وكلما ذكرتُ ذلك ازداد خوفي وجلاً، ثم انْهدَّ باكياً رضي الله عنه ورحمه.

أواه! من لنا بمثل عمر؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر!
بكت فاطمة زوجه بعد وفاته حتى عشي بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة؟ أجزعك على عمر؟ فهو والله أحق مَنْ يُجْزَعُ على مثله، أم على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديْك وما أخذت منها خير مما تركت.

قالت: والله لا هذا ولا ذاك.
لكني رأيت من عمر ليلةً منظراً ما تذكرته إلا بكيت، رأيتُه ليلةً قائماً يُصَلِّي، ثم جلس يقرأ حتى أتى على قول الله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4-5] ، فصاح: وا سوء صباحاه! ثم وثب ثم سقط فجعل يَئِنُّ حتى ظننت أن نَفْسَه ستخرج، ثم هدأ ثم نادى: وا سوء صباحاه! ثم قام، وهو يقول: وَيْلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت حتى سمع الأذان فقام.

تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:4-5] .

خاف الله في الدنيا ونسأل الله أن يؤمنه في الآخرة.

هذه مواقف من حياة عمر ومن خوفه من الله وزهده وعدله، هذا هو عمر الذي جلس للناس مربياً ومعلماً وأباً وأخاً، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـ عمر: {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} {وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} .

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً كـ عمر يردون الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
لكل أجلٍ كتاب، ولكل بداية نهاية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] يموت كل صغير وكبير وذكر وأنثى ومُقرٍّ وجاحد وزاهد وعابد: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] .
وتنتهي حياة الأخيار بالنهاية الحميدة؛ فكأن الأخيار ما بَئِسُوا مع من بَئِسَ، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صُبِغُوا في الجنة صَبْغَةً فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب وَوَصَبٍ.

وتنتهي في المقابل حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا ولا تلذذوا، عند أول صبغة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار.

وتأتي وفاة عمر الذي كان من أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت.

اشتد به المرض وأدخل عليه الأطباء، ووضعوا له العلاج المناسب والشفاء بيد بارئه سبحانه وبحمده، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، لكني أسأل الله أن يُسَلِّم.

ثم استدعى خادماً له وقال: أسألك بمَنْ يجمع الناس ليوم لا ريب فيه! أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله.
قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار.
قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين.

دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال له: اُعْفُ عني عفا الله عنك.

قام وخطب الناس فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم؛ إني لأقول هذا وما أعلم أحداً عنده من الذنوب أكثر مما عندي.

ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.

وفي ضحى يوم عيد الفطر حلت به سكرات الموت، التي لابد من حلولها بكل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما نزل، وإنك تركت صبيتك صغاراً لا مال لهم فأوص بهم إليَّ.

فجلس وقال: والله ما منعتهم حقاً هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بنيّ أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما مُكِبٌ على المعصية فلم أَكُنْ لأقويه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعاً، فدعوهم، وكانوا بضعة عشر صبياً كأنهم فراخ.

نظر إليهم بحنان الوالد، نظر لضعف طفولتهم وبراءة أعينهم؛ فذرفت عيناه الدمع ثم قال: أفديكم بنفسي أيتها الفتية الذين تركت ولا مال لهم، أي بَنيّ: إن أباكم كان بين أمرين: إما أن يُغْنيكم ويدخل النار، أو يُفْقركم ويدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن إن وليي فيكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
انصرفوا عصمكم الله.
فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت.
رباه! ما عندي ما أعدُه إلا خوفي منك وحسن ظني بك وأن لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا فكانوا يسمعونه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وأسلمَ الروح إلى باريها-فرحمة الله عليه-:

جسد لُفِّفَ في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
كان يقول قبل وفاته: إذا غسَّلتموني وكفَّنتموني ووضعتموني في لحدي فاكشفوا عن وجهي، فإن ابْيضَّ فاهنئوا، وإن اسْودَّ فويلٌ لي، ثم ويلٌ لي.

يقول رجاء: فكنت فيمن غسَّله وكفَّنه وأدخله لَحده، وحلَلْت العُقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه، فإذا هو كالقراطيس بَياضًا.
بيَّض اللهُ وجهه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه.

أسلم الروحَ عمر، فأُسكِتَ فمٌ لطالما تلجلج بذكر الله، وأُغمِضتْ عينان لطالما ذَرَفَتا من خشية الله، واستراحتْ يدان لطالما هَدَت لما يُرضي الله.
ودَّع الأمة والجياع شبعوا، والخائفون أَمِنُوا والمستضعَفون نُصروا بإذن ربهم، وجد اليتامى فيه أباً لهم، والأيامى لهم كافلاً، والتائهون لهم دليلاً، والمظلومون لهم نصيراً، وحلَّت المصيبة بالمسلمين، وأُغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.

فاليومُ تنعمُ يا عمر بجوار من أَهدى البشرْ
فسَقى رُفاتك وَابلاً مِن ماءِ غيثٍ منهمرْ
يقول مسلمة: يرحمك الله يا عمر! لقد ليَّنتَ قلوباً قاسية، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذِكراً.

ذهب عمر بعد أن حقَّقَ العدل والطمأنينة والسكينة والأمن بالإيمان في سنتين وخمسة أشهر وبِضعة أيام، كان كثيراً ما يقول ويردِّد: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، إنَّ الرجال لا تُقاس بالأعمار ولكن بالهِمَم والأعمال".

مات عمر وما مات ذِ كره، ولا يموت ذِكرُ الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، هاهو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحي الموتى بعد عيسى لكان عمر، واللهِ لا أَعجَب من راهبٍ جلس في صَوْمعته وقال إنَّي زاهد، لكنِّي أعجب من عمر يوم أَتَتْه الدنيا حتى أناخت عند قدميه فركلها بقدميه وأعرض عنها واختار ما عند الله.

ليس هذا فحسب، بل بكى عليه أحد رُهبان النصارى، فقيل له: لِمَ تبك عليه وعمر على غير دينك؟ قال: يرحمه الله قد كان نوراً في الأرض فأُطفِئ.

هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك؟ إن أعجبتك فاقْتَدِ بها، اقْتَدِ بـ عمر وبالصالحين علَّك أن تكون بعضَهم إن لم تكن جُلَّهُم، فإن لم تستطع ذلك وجاهدتَ نفسك فأحبَّهم، فالمرءُ مع مَنْ أَحبَّ.

إذا أعجبتك خِصال امرئٍ فَكُنه يَكُن منك ما يُعجبكْ
فليس على الجُودِ والمَكرُماتِ إذا جِئتَها حاجباً يحْجِبُكْ
اللهم يا من لا تراه في الدنيا العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون! يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور! يا من عزَّ فارتفع! وذلُّ كلُّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت!
يا من أظهر الجميل! يا من ستر القبيح! يا من لا يهتِك الستر! يا حَسَنَ التجاوز! يا واسعَ المغفرة! يا باسطَ اليدين بالرحمة! يا عظيمَ المَنِّ! يا كريمَ الصَّفْح! يا صاحبَ كلِّ نَجْوَى! يا دافع كل بلوى! اجعلنا من العادلين واغفر لآبائنا وأمهاتنا وسائر المؤمنين، واحشرنا مع المقسطين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة

أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة

أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة

مقتطف من كتاب رجال حول الرسول 

من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:
" ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟
من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟
من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟
من هذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين..؟؟
أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:
" لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟
انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..
أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة.

**

عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..

ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..
ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه، وأهداه اليه، فقال عليه الصلاة والسلام:
" أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح".

**
ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله.. ففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..
ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..

وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق..
وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!
وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:
" كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم"..؟
ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية..
وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصدسق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:
" لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..
ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم. "!!

وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الامء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..
لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!

**

لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا ...
ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله:
" لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين"..!!
وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
" ما أحببت الامارة قط، حبّي اياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني..
فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!
ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..
انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم..
ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة، وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..
وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا.. 
ولقد سار تحت راية الاسلام أنذى سارت، جنديّا، كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..
وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..

لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..
وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!
ويسأله خالد:
" يرحمك الله يا أبا عبيدة. ز ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟
فيجيبه أمين الأمة:
" اني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة".!!!

**

ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..
فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..
وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..
فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأ/انته..
" يا أيها الناس..
اني مسلم من قريش..
وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ
حيّاك الله يا أبا عبيدة..
وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..
مسلم من قريش، لا أقل ولا أكثر.
الدين: الاسلام..
والقبيلة: قريش.
هذه لا غير هويته..
أما هو كأمير الأمراء، وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا، وأشدّها بأسا، وأعظمها فوزا..
أما هو كحاكم لبلاد الشام، أمره مطاع ومشيئته نافذة..
كل ذلك ومثله معه، لا ينال من انتباهه لفتة، وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!

**

ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه:
أين أخي..؟
فيقولون من..؟
فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.
ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله..
ويسأله عمر وهو يبتسم:
" ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟
فيجيبه أبو عبيدة:
" يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!!

**
وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة..
وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..
وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام..
ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..
وأعاد مقالته عنه:
" لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..

**

ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان..
زهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة..
وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..
فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه..
ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه..!!

اسم الكتاب: رجال حول الرسول
المؤلف: خالد محمد خالد ثابت (المتوفى: 1416هـ)
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان

مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام

مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام

عن كتاب رجال حول الرسول لخالد محمد خالد

غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون: " كان أعطر أهل مكة"..
ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان والفداء..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.
انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..
ولكن أي واحد كان..؟
ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..
لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
"محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.

وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..

ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه ...
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.

ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!

**

كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..
أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.
وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..

ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها ...

ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.
وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..
ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..

ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..

خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
" لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!

لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال: "يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله" ...
أجابته غاضبة مهتاجة: " قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي"..!!
وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة ...
وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..
وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..

لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".
لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها. ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..

هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد) ..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..

ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه ... هكذا يتصورون ويتوهمون..

أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..
وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
"ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!

كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
"يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".
فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!

**

لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر، وتجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفزان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..

لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء] .
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..

**
وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!

**

وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..] ..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
"ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
"أيها الناس زوروهم، وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام"..

**

السلام عليك يا مصعب..
السلام عليكم يا معشر الشهداء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

اسم الكتاب: رجال حول الرسول
المؤلف: خالد محمد خالد ثابت (المتوفى: 1416هـ)
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2000 م

جميع الحقوق محفوظة Myhassoub ©2010-2013 | ، نقل بدون تصريح ممنوع . Privacy-Policy| إتصل بنا